فصل: تفسير الآية رقم (91)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 73‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ‏(‏71‏)‏ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ‏(‏72‏)‏ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏73‏)‏‏}‏

هذا خطاب للمخلصين من أمة محمد عليه السلام، وأمر لهم بجهاد الكفار، والخروج في سبيل الله، وحماية الشرع، و‏{‏خذوا حذركم‏}‏، معناه‏:‏ احزموا واستعدوا بأنواع الاستعداد، فهنا يدخل أخذ السلاح وغيره، و‏{‏انفروا‏}‏ معناه‏:‏ اخرجوا مجدين مصممين، يقال‏:‏ نفر الرجل ينفِر بكسر الفاء نفيراً، ونفرت الدابة تنفُر بضم الفاء نفوراً، و‏{‏ثبات‏}‏ معناه‏:‏ جماعات متفرقات، فهي كناية عن السرايا و‏{‏جميعاً‏}‏، معناه‏:‏ الجيش الكثيف مع النبي صلى الله عليه وسلم، هكذا قال ابن عباس وغيره، والثبة‏:‏ حكي أنها فوق العشيرة من الرجال، وزنها فعلة بفتح العين، أصلها ثبوة، وقيل‏:‏ ثبية، حذفت لامها بعد أن تحركت وانقلبت ألفاً حذفاً غير مقبس، ولذلك جمعت ثبون، بالواو والنون عوضاً من المحذوف وكسر أولها في الجمع دلالة على خروجها عن بابها، لأن بابها أن تجمع بالتاء أبداً، فيقال‏:‏ ‏{‏ثبات‏}‏، وتصغر ثبية أصلها ثبيوة، وأما ثبة الحوض وهي وسطه الذي يثوب الماء إليه، فالمحذوف منها العين، وأصلها ثوبة وتصغيرها ثوبية، وهي من ثاب يثوب، وكذلك قال أبو علي الفارسي في بيت أبي ذؤيب‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فَلَمَّا جَلاها بالأَيامِ تَحَيَّزَتْ *** ثَبَاتٌ عَلَيْهَا ذلُّهَا واْكِتئَابُها

انه اسم مفرد ليس يجمع سيق على الأصل، لأن أصل ثبة ثبوة، تحركت بالواو وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفاً، فساقها أبو ذؤيب في هذه الحال‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن منكم‏}‏ ‏{‏إن‏}‏ إيجاب، والخطاب لجماعة المؤمنين، والمراد ب «من» المنافقون وعبر عنهم ب ‏{‏منكم‏}‏ إذ هم في عداد المؤمنين، ومنتحلون دعوتهم، واللام الداخلة على «من» لام التأكيد، ودخلت على اسم ‏{‏إن‏}‏ لما كان الخبر متقدماً في المجرور، وذلك مهيع في كلامهم، كقولك‏:‏ إن في الدار لزيداً، واللام الداخلة على ‏{‏يبطئن‏}‏ لام قسم عند الجمهور، تقديره ‏{‏وإن منكم لمن‏}‏ والله ‏{‏ليبطئن‏}‏ وقيل‏:‏ هي لام تأكيد، و‏{‏يبطئن‏}‏ معناه‏:‏ يبطئ غيره أي يثبطه ويحمله على التخلف عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأ مجاهد «ليبطئن» بالتخفيف في الطاء، و‏{‏مصيبة‏}‏ يعني من قتل واستشهاد، وإنما هي مصيبة بحسب اعتقاد المنافقين ونظرهم الفاسد، أو على أن الموت كله مصيبة كما شاءه الله تعالى، وإنما الشهادة في الحقيقة نعمة لحسن مآلها، و‏{‏شهيداً‏}‏ معناه مشاهداً فالمعنى‏:‏ أن المنافق يسره غيبه إذا كانت شدة وذلك يدل على أن تخلفه إنما هو فزع من القتال ونكول عن الجهاد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن أصابكم فضل من الله‏}‏ الآية، المعنى ولئن ظفرتم وغنمتم وكل ذلك من فضل الله، ندم المنافق إن لم يحضر ويصب الغنيمة، وقال‏:‏ ‏{‏يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً‏}‏ متمنياً شيئاً قد كان عاهد أن يفعله ثم غدر في عهده، لأن المؤمن إنما يتمنى مثل هذا إذا كان المانع له من الحضور عذراً واضحاً، وأمراً لا قدرة له معه، فهو يتأسف بعد ذلك على فوات الخير، والمنافق يعاطي المؤمنين المودة، ويعاهد على التزام كلف الإسلام، ثم يتخلف نفاقاً وشكاً وكفراً بالله ورسوله، ثم يتمنى عندما يكشف الغيب الظفر للمؤمنين، فعلى هذا يجيء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كأن لم تكن بينكم وبينه مودة‏}‏ التفاتة بليغة، واعتراضاً بين القائل والمقول بلفظ يظهر زيادة في قبح فعلهم‏.‏

وحكى الطبري عن قتادة وابن جريج، أنهما كانا يتأولان قول المنافق ‏{‏يا ليتني كنت معهم‏}‏ على معنى الحسد منه للمؤمنين في نيل رغيبة، وقرأ الحسن ‏{‏ليقولُن‏}‏ بضم اللام على معنى «من» وضم اللام لتدل على الواو المحذوفة، ويدل مجموع هاتين الآيتين على أن خارج المنافقين فإنما كان يقصد الغنيمة، ومتخلفهم إنما كان يقصد الشك وتربص الدوائر بالمؤمنين و‏{‏كأن‏}‏ مضمنة معنى التشبيه، ولكنها ليست كالثقيلة في الحاجة إلى الاسم والخبر وإنما تجيء بعدها الجمل، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص «تكن» بتاء، وقرأ غيرهما «يكن» بياء، وذل حسن للفصل الواقع بين الفعل والفاعل، وقوله‏:‏ ‏{‏فأفوز‏}‏ نصب بالفاء في جواب التمني، وقرأ الحسن ويزيد النحوي ‏{‏فأفوز‏}‏ بالرفع على القطع والاستئناف، التقدير‏:‏ فأنا أفوز‏:‏ قال روح‏:‏ لم يجعل ل «ليت» جواباً، وقال الزجّاج‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏كأن لم يكن بينكم وبينه مودة‏}‏ مؤخر‏.‏ وإنما موضعه فإن أصابتكم مصيبة‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وهذا ضعيف لأنه يفسد فصاحة الكلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 75‏]‏

‏{‏فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏74‏)‏ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ‏(‏75‏)‏‏}‏

هذا أمر من الله عز وجل للمؤمنين الذين وصفهم بالجهاد في سبيل الله، و‏{‏يشرون‏}‏ معناه‏:‏ يبيعون في هذا الموضع، وإن جاء في مواضع‏:‏ يشترون، فالمعنى هاهنا يدل على أنه بمعنى «يبيعون» ثم وصف الله ثواب المقاتل في سبيل الله، فذكر غايتي حالتيه، واكتفى بالغايتين عما بينهما، وذلك أن غاية المغلوب في القتال أن يقتل، وغاية الذي يقتل ويغنم أن يتصف بأنه غالب على الإطلاق، «والأجر العظيم»‏:‏ الجنة، وقالت فرقة، «فلْيقاتل» بسكون لام الأمر، وقرأت فرقة «فلِيقاتل» بكسرها، وقرأ محارب بن دثار «فيقتل أو يَغلب» على بناء الفعلين للفاعل، وقرأ الجمهور ‏{‏نؤتيه‏}‏ بالنون، وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف «فسوف يؤتيه» بالياء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما لكم‏}‏ اللام متعلقة بما يتعلق بالمستفهم عنه من معنى الفعل، تقديره وأي شيء موجود أو كائن أن نحو ذلك لكم، و‏{‏لا تقاتلون‏}‏ لفي موضع نصب على الحال، تقديره تاركين أو عطف على «السبيل» أي وفي المستضعفين لاستنقاذهم، ويعني ب ‏{‏المستضعفين‏}‏ من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال كفرة قريش وأذاهم لا يستطيعون خروجاً، ولا يطيب لهم على الأذى إقامة، وفي هؤلاء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «اللهم أنج سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين» و‏{‏الولدان‏}‏ بابه أن يكون جمع وليد، وقد يكون جمع ولد كورل وورلان، فهي على الوجهين عبارة عن الصبيان، والقرية هاهنا مكة بإجماع من المتأولين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والآية تتناول المؤمنين والأسرى وحواضر الشرك إلى يوم القيامة، ووحد الظالم لأنه موضع اتخاذ الفعل، ألا ترى أن الفعل إنما تقديره الذي ظلم أهلها، ولما لم يكن للمستضعفين حيلة إلا الدعاء، دعوا في الاستنقاذ وفيما يوالهيم من معونة الله تعالى وما ينصرهم على أولئك الظلمة من فتح الله تبارك وتعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ‏(‏76‏)‏‏}‏

هذه الآية تقتضي تقوية قلوب المؤمنين وتحريضهم، و‏{‏الطاغوت‏}‏ كل ما عبد واتبع من دون الله، وتدل قرينة ذكر الشيطان بعد ذلك على أن المراد ب ‏{‏الطاغوت‏}‏ هنا الشيطان، وإعلامه تعالى بضعف ‏{‏كيد الشيطان‏}‏ تقوية لقلوب المؤمنين، وتجرئة لهم على مقارعة الكيد الضعيف، فإن العزم والحزم الذي يكون على حقائق الإيمان يكسره ويهده، ودخلت كان دالة على لزوم الصفة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين قيل لهم‏}‏ اختلف المتأولون فيمن المراد بقوله ‏{‏الذين قيل لهم‏}‏‏؟‏ فقال ابن عباس وغيره‏:‏ كان عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والمقداد بن عمرو الكندي وجماعة سواهم قد أنفقوا من الذل بمكة قبل الهجرة وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيح لهم مقاتلة المشركين فأمرهم الله تعالى بكف الأيدي، وأن لا يفعلوا، فلما كان بالمدينة وفرض القتال، شق ذلك على بعضهم وصعب موقعه، ولحقهم ما يلحق البشر من الخور والكع عن مقارعة العدو فنزلت الآية فيهم، وقال قوم‏:‏ كان كثير من العرب قد استحسنوا الدخول في دين محمد عليه السلام على فرائضه التي كانت قبل القتال من الصلاة والزكاة ونحوها والموادعة وكف الأيدي، فلما نزل القتال شق ذلك عليهم وجزعوا له، فنزلت الآية فيهم، وقال مجاهد وابن عباس أيضاً‏:‏ إنما الآية حكاية عن اليهود أنهم فعلوا ذلك مع نبيهم في وقته، فمعنى الحكاية عنهم تقبيح فعلهم، ونهي المؤمنين عن فعل مثله، وقالت فرقة‏:‏ المراد بالآية المنافقون من أهل المدينة عبد الله بن أبيّ وأمثاله، وذلك أنهم كانوا قد سكنوا على الكره إلى فرائض الإسلام مع الدعة وعدم القتال، فلما نزل القتال شق عليهم وصعب عليهم صعوبة شديدة، إذ كانوا مكذبين بالثواب، ذكره المهدوي قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ ويحسن هذا القول أن ذكر المنافقين يطرد فيما بعدها من الآيات، ومعنى ‏{‏كفوا أيديكم‏}‏ أمسكوا عن القتال، والفريق‏:‏ الطائفة من الناس، كأنه فارق غيره‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يخشون الناس كخشية الله‏}‏ يعني أنهم كانوا يخافون الله في جهة الموت، لأنهم لا يخشون الموت إلا منه، فلما كتب عليهم قتال الناس رأوا أنهم يموتون بأيديهم، فخشوهم في جهة الموت كما كانوا يخشون الله، وقال الحسن‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏كخشية الله‏}‏ يدل على أنها في المؤمنين، وهي خشية خوف لا خشية مخالفة، ويحتمل أن يكون المعنى يخشون الناس على حد خشية المؤمنين الله عز وجل‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وهذا ترجيح لا قطع، وقوله‏:‏ ‏{‏أو أشد خشية‏}‏ قالت فرقة‏:‏ ‏{‏أو‏}‏ بمعنى الواو، وفرقة‏:‏ هي بمعنى «بل» وفرقة‏:‏ هي للتخيير، وفرقة‏:‏ على بابها في الشك في حق المخاطب، وفرقة‏:‏ هي على جهة الإبهام على المخاطب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقد شرحت هذه الأقوال كلها في سورة البقرة في قوله‏:‏ ‏{‏أو أشد قسوة‏}‏ ‏[‏الآية‏:‏ 74‏]‏ أن الموضعين سواء، وقولهم، ‏{‏لم كتبت علينا القتال‏}‏‏؟‏ رد في صدر أوامر الله تعالى وقلة استسلام، «والأجل القريب» يعنون به موتهم على فرشهم، هكذا قال المفسرون‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا يحسن إذا كانت الآية في اليهود أو المنافقين، وأما إذا كانت في طائفة من الصحابة، فإنما طلبوا التأخر إلى وقت ظهور الإسلام وكثرة عددهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 78‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‏(‏77‏)‏ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ‏(‏78‏)‏‏}‏

المعنى‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ يا محمد لهؤلاء‏:‏ ‏{‏متاع الدنيا‏}‏، أي الاستمتاع بالحياة فيها الذي حرصتم عليه وأشفقتم من فقده ‏{‏قليل‏}‏، لأنه فان زائل ‏{‏والآخرة‏}‏ التي هي نعيم مؤبد ‏{‏خير‏}‏ لمن أطاع الله واتقاه في الامتثال لأوامره، على المحاب والمكاره، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم «تظلمون» بالتاء على الخطاب، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «يظلمون» بالياء على ترك المخاطبة وذكر الغائب، والفتيل الخيط في شق نواة التمرة، وقد تقدم القول فيه‏.‏

و ‏{‏أينما تكونوا يدرككم الموت‏}‏ جزاء وجوابه، وهكذا قراءة الجمهور، وقرأ طلحة بن سليمان «يدركُكُم» بضم الكافين ورفع الفعل، قال أبو الفتح‏:‏ ذلك على تقدير دخول الفاء كأنه قال‏:‏ فيدرككم الموت، وهي قراءة ضعيفة، وهذا إخبار من الله يتضمن تحقير الدنيا، وأنه لا منجى من الفناء والتنقل، واختلف المتأولون في قوله‏:‏ ‏{‏في بروج‏}‏ فالأكثر والأصح أنه أراد البروج والحصون التي في الأرض المبنية، لأنها غاية البشر في التحصن والمنعة، فمثل الله لهم بها، قال قتادة‏:‏ المعنى في قصور محصنة، وقاله ابن جريج والجمهور، وقال السدي‏:‏ هي بروج في السماء الدنيا مبنية، وحكى مكي هذا القول عن مالك، وأنه قال‏:‏ ألا ترى إلى قوله ‏{‏والسماء ذات البروج‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 1‏]‏ وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏{‏في بروج مشيدة‏}‏، معناه في قصور من حديد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا لا يعطيه اللفظ، وإنما البروج في القرآن إذا وردت مقترنه بذكر السماء بروج المنازل للقمر وغيره على ما سمتها العرب وعرفتها، وبرج معناه ظهر، ومنه البروج أي المطولة الظاهرة، ومنه تبرج المرأة، و‏{‏مشيدة‏}‏ قال الزجّاج وغيره‏:‏ معناه مرفوعة مطولة، ولأن شاد الرجل البناء إذا صنعه بالشيد وهو الجص إذا رفعه، وقالت طائفة‏:‏ ‏{‏مشيدة‏}‏ معناه‏:‏ محسنة بالشيد، وذلك عندهم أن «شاد الرجل» معناه‏:‏ جصص بالشيد، وشيد معناه‏:‏ كرر ذلك الفعل فهي للمبالغة، كما تقول‏:‏ كسرت العود مرة، وكسرته في مواضع منه كثيرة مراراً، وخرقت الثوب وخرقته، إذا كان الخرق منه في مواضع كثيرة، فعلى هذا يصح أن تقول‏:‏ شاد الرجل الجدار مرة وشيد الرجل الجدار إذا أردت المبالغة، لأن التشييد منه وقع في مواضع كثيرة، ومن هذا المعنى قول الشاعر ‏[‏عدي بن زياد العبادي‏]‏‏:‏ ‏[‏الخفيف‏]‏

شَادَهُ مَرْمَراً وَجَلَّلَهُ كِلْ *** ساً فللطيرِ في ذُراهُ وكورُ

والهاء والميم في قوله‏:‏ ‏{‏وإن تصبهم‏}‏ رد على الذين قيل لهم، كفوا أيديكم وهذا يدل على أنهم المنافقون، لأن المؤمنين لا تليق بهم هذه المقالة، ولأن اليهود لم يكونوا للنبي عليه السلام تحت أمر، فتصيبهم بسببه أسواء، ومعنى الآية، وإن تصب هؤلاء المنافقين حسنة من هزم عدو أو غنيمة أو غير ذلك رأوا أن ذلك بالاتفاق من صنع الله، لا أنه ببركة إتباعك والإيمان بك، ‏{‏وإن تصبهم سيئة‏}‏، أي هزيمة أو شدة جوع وغير ذلك، قالوا‏:‏ هذه بسببك، لسوء تدبيرك، كذا قال ابن زيد، وقيل لشؤمك علينا‏.‏

قاله الزجّاج وغيره، وقوله‏:‏ ‏{‏قل كل من عند الله‏}‏ إعلام من الله تعالى، أن الخير والشر، والحسنة والسيئة خلق له ومن عنده، لا رب غيره ولا خالق ولا مخترع سواه، فالمعنى‏:‏ قل يا محمد لهؤلاء‏:‏ ليس الأمر كما زعمتم من عندي ولا من عند غيري، بل هو كله من عند الله، قال قتادة‏:‏ النعم والمصائب من عند الله، قال ابن زيد، النصر والهزيمة، قال ابن عباس‏:‏ السيئة والحسنة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا كله شيء واحد، ثم وبخهم بالاستفهام عن علة جهلهم، وقلة فهمهم وتحصيلهم لما يخبرون به من الحقائق والفقه في اللغة الفهم، وأوقفته الشريعة على الفهم في الدين وأموره، وغلب عليه بعد الاستعمال في علم المسائل الأحكامية، والبلاغة في الاستفهام عن قلة فقههم بينة، لأنك إذا استفهمت عن علة أمر ما، فقد تضمن كلامك إيجاب ذلك الأمر تضمناً لطيفاً بليغاً، ووقف أبو عمرو والكسائي على قوله ‏{‏فما‏}‏ ووقف الباقون على اللام في قوله‏:‏ ‏{‏فمال‏}‏، إتباعك للخط، ومنعه قوم جملة، لأنه حرف جر فهي بعض المجرور، وهذا كله بحسب ضرورة وانقطاع نفس، وأما أن يختار أحد الوقف فيما ذكرناه ابتداء فلا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 81‏]‏

‏{‏مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏(‏79‏)‏ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ‏(‏80‏)‏ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏81‏)‏‏}‏

قالت فرقة‏:‏ ‏{‏ما‏}‏ شرطية، ودخلت ‏{‏من‏}‏ بعدها لأن الشرط ليس بواجب فأشبه النفي الذي تدخله ‏{‏من‏}‏، وقالت فرقة ‏{‏ما‏}‏ بمعنى الذي، و‏{‏من‏}‏ لبيان الجنس، لأن المصيب للإنسان أشياء كثيرة‏:‏ حسنة وسيئة، ورخاء وشدة، وغير ذلك، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وغيره داخل في المعنى، وقيل‏:‏ الخطاب للمرء على الجملة، ومعنى هذه الآية عند ابن عباس وقتادة والحسن والربيع وابن زيد وأبي صالح وغيرهم، القطع واستئناف الإخبار من الله تعالى، بأن الحسنة منه وبفضله، والسيئة من الإنسان بإذنابه، وهي من الله بالخلق والاختراع، وفي مصحف ابن مسعود، «فمن نفسك» «وأنا قضيتها عليك» وقرأ بها ابن عباس، وحكى أبو عمرو أنها في مصحف ابن مسعود «وأنا كتبتها» وروي أن أبياً وابن مسعود قرآ «وأنا قدرتها عليك» ويعضد هذا التأويل أحاديث عن النبي عليه السلام معناها، أن ما يصيب ابن آدم من المصائب، فإنما هي عقوبة ذنوبه، ومن ذلك أن أبا بكر الصديق لما نزلت ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 123‏]‏ جزع فقال له رسول الله صلى الله عيله وسلم، «ألست تمرض‏؟‏ ألست تسقم‏؟‏ ألست تغتم‏؟‏» وقال أيضاً عليه السلام‏:‏ «ما يصيب الرجل خدشة عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر» ففي هذا بيان أو تلك كلها مجازاة على ما يقع من الإنسان، وقالت طائفة‏:‏ معنى الآية كمعنى التي قبلها في قوله‏:‏ ‏{‏وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78‏]‏ على تقدير حذف يقولون، فتقديره فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً، يقولون‏:‏ ما أصابك من حسنة، ويجيء القطع على هذا القول من قوله‏:‏ ‏{‏وأرسلنا‏}‏ وقالت طائفة‏:‏ بل القطع في الآية من أولها، والآية مضمنة الإخبار أن الحسنة من الله وبفضله، وتقدير ما بعده ‏{‏وما أصابك من سيئة فمن نفسك‏}‏، على جهة الإنكار والتقرير، فعلى هذه المقالة ألف الاستفهام محذوفة من الكلام، وحكى هذا القول المهدوي، و‏{‏رسولاً‏}‏ نصب على الحال، وهي حال تتضمن معنى التأكيد في قوله تعالى، ‏{‏وأرسلناك للناس رسولاً‏}‏ ثم تلاه بقوله‏:‏ ‏{‏وكفى بالله شهيداً‏}‏ توعد للكفرة، وتهديد تقتضيه قوة الكلام، لأن المعنى شهيداً على من كذبه‏.‏

والمعنى أن الرسول إنما يأمر وينهى بياناً من الله وتبليغاً، فإنما هي أوامر الله ونواهيه، وقالت فرقة سبب هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من أحبني فقد أحب الله» فاعترضت اليهود عليه في هذه المقالة، وقالوا‏:‏ هذا محمد يأمر بعبادة الله وحده، وهو في هذا القول مدّع للربوبية، فنزلت هذه الآية تصديقاً للرسول عليه السلام، وتبييناً لصورة التعلق بينه وبين فضل الله تعالى، و‏{‏تولى‏}‏ معناه أعرض، وأصل ‏{‏تولى‏}‏ في المعنى أن يتعدى بحرف، فنقول تولى فلان عن الإيمان، وتولى إلى الإيمان لأن اللفظة تتضمن إقبالاً وإدباراً، لكن الاستعمال غلب عليها في كلام العرب على الإعراض والإدبار، حتى استغني فيها عن ذكر الحرف الذي يتضمنه، و‏{‏حفيظاً‏}‏ يحتمل معنيين، أي ليحفظهم حتى لا يقعوا في الكفر والمعاصي ونحوه، أو ليحفظ مساوئهم وذنوبهم ويحسبها عليهم، وهذه الآية تقتضي الإعراض عن من تولى والترك له، وهي قبل نزول القتال وإنما كانت توطئة ورفقاً من الله تعالى حتى يستحكم أمر الإسلام‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون طاعة‏}‏ الآية نزلت في المنافقين باتفاق من المفسرين، المعنى يقولون لك يا محمد‏:‏ أمرنا طاعة، فإذا خرجوا من عندك اجتمعوا ليلاً وقالوا غير ما أظهروا لك‏.‏ و‏{‏بيَّت‏}‏ معناه فعل ليلاً، فإما أخذ من بات، وإما من البيت لأنه ملتزم بالليل وفي الأسرار التي يخاف شياعها، ومن ذلك قول الشاعر ‏[‏الأسود بن يعفر‏]‏‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

أتوني فَلَمْ أَرْضَ مَا بَيَّتُوا *** وَكَانُوا أَتوني بِأَمْرٍ نكرْ

ومنه قول النمر بن تولب‏:‏

هبَّتْ لتعذلني بليل اسمعي *** سفهاً تبيتك للملامةِ فاهجعي

المعنى وتقول لي‏:‏ اسمع، وزيدت الياء إشباعاً لتصريع القافية واتباعاً للياء، كقول امرئ القيس‏:‏

ألا أيُّها الليلُ الطويلُ أَلاَ انْجَلي *** وقوله بأمثل، وقرأ جمهور الفراء ‏{‏بيت‏}‏ بتحريك التاء، وقرأ أبو عمر وحمزة بإدغامها في الطاء، وقرأ ابن مسعود «بيت مبيت منهم يا محمد» وقوله‏:‏ ‏{‏تقول‏}‏ يحتمل أن يكون معناه تقول أنت يا محمد، ويحتمل، تقول هي لك، و‏{‏يكتب‏}‏ معناه على وجهين، إما يكتبه عنده حسب كتب الحفظة حتى يقع الجزاء، وإما يكتبه في كتابه إليك، أي ينزله في القرآن ويعلم بها، قال هذا القول الزجّاج، والأمر بالإعراض إنما هو عن معاقبتهم ومجازاتهم، وأما استمرار دعوتهم وعظتهم فلازم، قال الضحاك‏:‏ معنى ‏{‏أعرض عنهم‏}‏ لا تخبر بأسمائهم، وهذا أيضاً قبل نزول القتال على ما تقدم‏.‏ ثم أمر الله تعالى بالتوكل عليه والتمسك بعروته الوثقى ثقة بإنجاز وعده في النصر، و«الوكيل» القائم بالأمور المصلح لما يخاف من فسادها، وليس ما غلب الاستعمال في الوكيل في عصرنا بأصل في كلام العرب، وهي لفظة رفيعة وضعها الاستعمال العامي، كالعريف والنقيب وغيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 83‏]‏

‏{‏أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ‏(‏82‏)‏ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏83‏)‏‏}‏

المعنى‏:‏ هؤلاء المنافقون الطاعنون عليك الرافعون بغير برهان في صدر نبوتك، ألا يرجعون إلى النصفة، وينظرون موضع الحجة ويتدبرون كلام الله تعالى‏؟‏ فتظهر لهم براهينه، وتلوح أدلته، «والتدبر»‏:‏ النظر في أعقاب الأمور وتأويلات الأشياء، هذا كله يقتضيه قوله‏:‏ ‏{‏أفلا يتدبرون القرآن‏}‏ وهذا أمر بالنظر والاستدلال، ثم عرف تعالى بمواقع الحجة، أي لو كان من كلام البشر لدخله ما في كلام البشر من القصور، ظهر فيه التناقض والتنافي الذي لا يمكن جمعه، إذ ذلك موجود في كلام البشر، والقرآن منزه عنه، إذ هو كلام المحيط بكل شيء علماً‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ فإن عرضت لأحد شبهة وظن اختلافاً في شيء من كتاب الله، فالواجب أن يتهم نظره ويسأل من هو أعلم منه، وذهب الزجّاج‏:‏ إلى أن معنى الآية لوجدوا فيما نخبرك به مما يبيتون اختلافاً، أي‏:‏ فإذا تخبرهم به على حد ما يقع، فذلك دليل أنه من عند الله غيب من الغيوب، هذا معنى قوله، وقد بينه ابن فورك والمهدوي‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا جاءهم أمر من الأمن‏}‏ الآية، قال جمهور المفسرين‏:‏ الآية في المنافقين حسبما تقدم من ذكرهم، والآية نازلة في سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعوثه، والمعنى‏:‏ أن المنافقين كانوا يشرهون إلى سماع ما يسوء النبي في سراياه، فإذا طرأت لهم شبهة أمن للمسلمين أو فتح عليهم، حقروها وصغروا شأنها وأذاعوا بذلك التحقير والتصغير، وإذا طرأت لهم شبهة خوف المسلمين أو مصيبة عظموها وأذاعوا ذلك التعظيم، و‏{‏أذاعوا به‏}‏ معناه‏:‏ أفشوه، وهو فعل يتعدى بحرف جر وبنفسه أحياناً، تقول أذاعت كذا وأذعت به، ومنه قول أبي الأسود‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

أَذَاعُوا بِهِ في النَّاسِ حَتَّى كَأَنَّهُ *** بِعَلْيَاءِ نَارٍ أَوقِدَتْ بِثُقُوبِ

وقالت فرقة‏:‏ الآية نازلة في المنافقين، وفي من ضعف جلده عن الإيمان من المؤمنين وقلت تجربته‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ فإما أن يكون ذلك في أمر السرايا فإنهم كانوا يسمعون أقوال المنافقين فيقولونها مع من قالها، ويذيعونها مع من أذاعها، وهم غير متثبتين في صحتها، وهذا هو الدال على قلة تجربتهم، وإما أن يكون ذلك في سائر الأمور الواقعة، كالذي قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ إنه جاء وقوم في المسجد يقولون طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، قال‏:‏ فدخلت على عائشة فقلت‏:‏ يابنة أبي بكر بلغ من أمرك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقالت‏:‏ يابن الخطاب عليك بعيبتك، قال‏:‏ فدخلت على حفصة فقلت‏:‏ يا حفصة قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يحبك ولولا أنا لطلقك فجعلت تبكي قال فخرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في غرفة له، ورباح مولاه جالس على أسكفة الغرفة، فقلت‏:‏ يا رباح استأذن لي على رسول الله، فنظر إلى الغرفة ثم نظر إليَّ وسكت، فقلت‏:‏ يا رباح استأذن لي على رسول الله فلعله يظن أني جئت من أجل حفصة، والله لو أمرني أن أضرب عنقها لضربته، فنظر ثم أشار إليَّ بيده‏:‏ أن ادخل، فدخلت وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجع على حصير وقد أثر في جنبه، وإذا ليس في غرفته‏.‏

وهذا التأويل جار مع قول عمر، أنا استنبطته ببحثي وسؤالي، وتحتمل الآية أن يكون المعنى لعلمه المسؤولون المستنبطون، فأخبروا بعلمهم، وقرأ أبو السمال، «لعلْمه» بسكون اللام وذلك مثل «شجْر بينهم» والضمير في ‏{‏ردوه‏}‏ عائد على الأمر، وفي ‏{‏ومنهم‏}‏ يحتمل أن يعود على ‏{‏الرسول‏}‏ و‏{‏أولي الأمر‏}‏، ويحتمل أن يعود على الجماعة كلها، أي لعلمه البحثة من الناس، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا فضل الله عليكم ورحمته‏}‏ الآية، هذا خطاب لجميع المؤمنين باتفاق من المتأولين، والمعنى‏:‏ ولولا هداية الله وإرشاده لكم بالإيمان وذلك فضل منه ورحمة- لكنتم على كفركم، وذلك هو اتباع الشيطان‏.‏ وحكى الزجاج‏:‏ لولا فضل الله في هذا القرآن ورسالة محمد عليه السلام، واختلف المتأولون في الاستثناء بقوله ‏{‏إلا قليلاً‏}‏ مم هو‏؟‏ فقال ابن عباس وابن زيد‏:‏ ذلك مستثنى من قوله‏:‏ «أذاعوا به إلا قليلاً» ورجحه الطبري، وقال قتادة‏:‏ ذلك مستثنى من قوله‏:‏ «يستنبطونه إلا قليلاً» وقالت فرقة‏:‏ ذلك مستثنى من قوله‏:‏ ‏{‏لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً‏}‏، على سرد الكلام دون تقدير تقديم، ثم اختلفت هذه الفرقة، فقال الضحاك‏:‏ إن الله هدى الكل منهم إلى الإيمان، فكان منهم من تمكن فيه حتى لم يخطر له قط خاطر شك، ولا عنت له شبهة ارتياب، فذلك هو القليل، وسائر من أسلم من العرب لم يخل من الخواطر، فلولا فضل الله بتجديد الهداية لهم لضلوا واتبعوا الشيطان إلا قبضة من شعير وقبضة من قرظ، وإذا أفيقان معلقان، فبكيت، فقال رسول الله عليه السلام‏:‏ ما يبكيك يا بن الخطاب‏؟‏ فقلت يا رسول الله‏:‏ أنت صفوة الله من خلقه ورسوله، وليس لك من الدنيا إلا هذا، وكسرى وقيصر في الأشجار والأنهار، فقال أهاهنا أنت يا عمر‏؟‏ أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة‏؟‏ فقلت‏:‏ لا، فقلت أتأذن لي أن أعرف الناس‏؟‏ قال‏:‏ افعل إن شئت، قال‏:‏ فقمت على باب المسجد، فقلت‏:‏ ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطلق نساءه، فأنزل الله في هذه القصة ‏{‏وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به‏}‏ الآية وأنا الذي استنبطته‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو ردوه إلى الرسول‏}‏ الآية، المعنى‏:‏ لو أمسكوا عن الخوض واستقصوا الأمور من قبل الرسول‏.‏ أو ‏{‏أولي الأمر‏}‏ وهم الأمراء، قاله السدي وابن زيد، وقيل‏:‏ أهل العلم، قاله الحسن وقتادة وغيرهما، والمعنى يقتضيهما معاً ‏{‏لعلمه‏}‏ طلابه من ‏{‏أولي الأمر‏}‏ والبحثة عنه وهم مستنبطوه، كما يستنبط الماء وهو النبط أي الماء المستخرج من الأرض‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

قريبٌ ثراه ما ينال عدوُّه *** له نَبَطاً آبي الهوان قطوبُ

يعني بالنبط الماء المستنبط‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً‏}‏‏.‏ هذا خطاب للمؤمنين باتفاق من المتأولين‏.‏ والمعنى‏:‏ لولا هداية الله لكم وإرشاده لبقيتم على كفركم، وهو اتباع الشيطان‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ هدى الكل منهم للإيمان فمنهم من تمكن فيه حتى لم يخطر له قط خاطر شك ولا عنت له شبهة ارتياب، وذلك هو القليل؛ وسائر من أسلم من العرب لم يخل من الخواطر، فلولا فضل الله بتجريد الهداية لهم لضلّوا واتبعوا الشيطان‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ هذا معنى قول الضحاك، ويجيء الفضل معيناً، أي رسالة محمد والقرآن، لأن الكل إنما هُدي بفضل الله على الإطلاق، وقال قوم‏:‏ المخاطب بقوله ‏{‏اتبعتم‏}‏ جميع المؤمنين، وقوله‏:‏ ‏{‏إلا قليلاً‏}‏ إشارة إلى من كان قبل الإسلام غير متبع للشيطان على ملة إبراهيم، كورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل، وغيرهما، وقال قوم‏:‏ الاستثناء إنما هو من الإتباع، أي ‏{‏لاتبعتم الشيطان‏}‏ كلكم ‏{‏إلا قليلاً‏}‏ من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها، وقال قوم‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏إلا قليلاً‏}‏ عبارة عن العدم، يريدون لاتبعتم الشيطان كلكم، وهذا الأخير قول قلق، وليس يشبه ما حكى سيبويه من قولهم‏:‏ أرض قل ما تنب كذا، بمعنى لا تنبته لأن اقتران القلة بالاستثناء يقتضي حصولها، ولكن قد ذكره الطبري‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 86‏]‏

‏{‏فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا ‏(‏84‏)‏ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ‏(‏85‏)‏ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ‏(‏86‏)‏‏}‏

هذا أمر في ظاهر اللفظ للنبي عليه السلام وحده، لكن لم نجد قط في خبر أن القتال فرض على النبي صلى الله عليه وسلم دون الأمة مدة ما، المعنى- والله أعلم- أنه خطاب للنبي عليه السلام في اللفظ، وهومثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه، أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له ‏{‏قاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك‏}‏ ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يستشعر أن يجاهد ولو وحده، ومن ذلك قول النبي عليه السلام «والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي» وقول أبي بكر وقت الردة‏:‏ «ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي»، وخلط قوم في تعلق الفاء من قوله ‏{‏فقاتل‏}‏ بما فيه بعد، والوجه أنها عاطفة جملة كلام على جملة، وهي دالة على اطراح غير ما أمر به، ثم خص النبي عليه السلام بالأمر بالتحريض أي الحث على المؤمنين في القيام بالفرض الواجب عليهم‏.‏ و‏{‏عسى‏}‏ إذا وردت من الله تعالى فقال عكرمة وغيره‏:‏ إنها واجبة، لأنها من البشر متوقعة مرجوة ففضل الله تعالى يوجب وجوبها، وفي هذا وعد للمؤمنين بغلبتهم للكفرة، ثم قوى بعد ذلك، قلوبهم بأن عرفهم شدة بأس الله، وأنه أقدر على الكفرة، ‏{‏وأشد تنكيلاً‏}‏ لهم، التنكيل‏:‏ الأخذ بأنواع العذاب وترديده عليهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من يشفع شفاعة حسنة‏}‏ الآية‏.‏ اصل الشفاعة والشفعة ونحوها من الشفع، وهو الزوج في العدد، لأن الشافع ثان لوتر المذنب، والشفيع ثان لوتر المشتري، واختلف في هذه الآية المتأولون، فقال الطبري‏:‏ المعنى من يشفع وتر الإسلام بالمعونة للمسلمين، أو من يشفع وتر الكفر وغيرهم‏:‏ هي في شفاعات الناس بينهم في حوائجهم، فمن يشفع لينفع فله نصيب، ومن يشفع ليضر فله كفل، وقال الحسن وغيره‏:‏ «الشفاعة الحسنة» هي في البر والطاعة، والسيئة هي في المعاصي، وهذا كله قريب بعضه من بعض، «والكفل» النصيب، ويستعمل في النصيب من الخير ومن الشر، وفي كتاب الله تعالى ‏{‏يؤتكم كفلين من رحمته‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 28‏]‏ و‏{‏مقيتاً‏}‏ معناه قديراً، ومنه قول الشاعر، وهو الزبير بن عبد المطلب‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

وَذِي ضَغنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عَنْهُ *** وَكُنْتُ عَلَى إذَابَتِهِ مُقيتا

أي قديراً، وعبر عنه ابن عباس ومجاهد، بحفيظ وشهيد، وعبد الله بن كثير، بأنه الواصب القيم بالأمور، وهذا كله يتقارب، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقيت» على من رواها هكذا أي من هو تحت قدرته وفي قبضته من عيال وغيره، وذهب مقاتل بن حيان، إلى أنه الذي يقوت كل حيوان، وهذا على أن يقال أقات بمعنى قات، وعلى هذا يجيء قوله عليه السلام «من يقيت» من أقات وقد حكى الكسائي «أقات» يقيت، فأما قول الشاعر ‏[‏السموأل بن عادياء‏]‏‏:‏ ‏[‏الخفيف‏]‏

ليث شعري وأشعرَنَّ إذا ما *** قَرَّبُوها مَطْوِيَّةً وَدُعِيتُ

أإلى الفضل أم عليّ‏؟‏ إذا حُو *** سِبْتُ، إنّي على الحِسَابِ مُقِيتُ

فقال فيه الطبري‏:‏ إنه من غير هذا المعنى المتقدم، وإنه بمعنى موقوت‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وهذا يضعفه أن يكون بناء فاعل بمعنى بناء مفعول‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا حييتم‏}‏ الآية‏.‏ التحية وزنها تفعلة من حي، وهذا هو الأغلب من مصدر فعل في المعتل، وروي عن مالك أن هذه الآية في تشميت العاطس، وفيه ضعف، لأنه ليس في الكلام على ذلك دلالة، أما أن الرد على المشمت مما يدخل بالقياس في معنى رد التحية، وهذا هو منحة مالك رحمه الله إن صح ذلك عنه والله أعلم، واختلف المتأولون، فقالت فرقة‏:‏ التحية أن يقول الرجل‏:‏ سلام عليك، فيجب على الآخر أن يقول‏:‏ عليك السلام ورحمة الله، فإن قال البادئ‏:‏ السلام عليك ورحمة الله، قال الراد عليك السلام ورحمة الله وبركاته، فإن قال البادئ‏:‏ السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقد انتهى ولم يبق للراد أن يحيي بأحسن منها، فهاهنا يقع الرد المذكور في الآية، فالمعنى عند أهل هذه القالة ‏{‏إذا حييتم بتحية‏}‏، فإن نقص المسلم من النهاية فحيوا بأحسن‏.‏ وإن انتهى فردوا، وقالت فرقة‏:‏ إنما معنى الآية تخيير الراد، فإذا قال البادئ‏:‏ السلام عليك، فللراد أن يقول، وعليك السلام فقط، وهذا هو الرد، وله أن يقول، عليك السلام ورحمة الله، وهذا هو التحية بأحسن منها، وقال ابن عباس وغيره‏:‏ المراد بالآية، ‏{‏إذا حييتم بتحية‏}‏، فإن كانت من مؤمن فحيوا بأحسن منها، وإن كانت من كافر فردوا على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال لهم‏:‏ وعليكم، وروي عن ابن عمرو وابن عباس وغيرهما، انتهى السلام إلى البركة، وجمهور أهل العلم على أن لا يبدأ أهل الكتاب بسلام، فإن سلم أحد ساهياً أو جاهلاً فينبغي أن يستقيله سلامه، وشذ قوم في إباحة ابتدائهم، والأول أصوب، لأنه به يتصور إذلالهم، وقال ابن عباس‏:‏ كل من سلم عليك من خلق الله فرد عليه وإن كان مجوسياً، وقال عطاء‏:‏ الآية في المؤمنين خاصة، ومن سلم من غيرهم قيل له‏:‏ عليك، كما في الحديث، وأكثر أهل العلم على أن الابتداء بالسلام سنة مؤكدة، ورده فريضة، لأنه حق من الحقوق، قاله الحسن بن أبي الحسن وغيره، و‏{‏حسيباً‏}‏ معناه‏:‏ حفيظاً، وهو فعيل من الحساب، وحسنت هاهنا هذه الصفة، إذ معنى الآية في أن يزيد الإنسان أو ينقص أو يوفي قدر ما يجيء به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 88‏]‏

‏{‏اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ‏(‏87‏)‏ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ‏(‏88‏)‏‏}‏

لما تقدم الإنذار والتحذير الذي تضمنه قوله تعالى ‏{‏إن الله كان على كل شيء حسيباً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 86‏]‏ تلاه مقوياً له الإعلام بصفة الربوبية، وحال الوحدانية، والإعلام بالحشر، والبعث من القبور، للثواب، والعقاب، إعلاماً بقسم، والمقسم به تقديره وهو‏:‏ أو وحقه، أو وعظمته، ‏{‏ليجمعنكم‏}‏ والجمع هنا بمعنى الحشر، فلذلك حسنت بعده ‏{‏إلى‏}‏ أي‏:‏ إليه السوق والحشر، و‏{‏القيامة‏}‏‏:‏ أصلها القيام، ولما كان قيام الحشر من أذل الحال وأضعفها إلى أشد الأهوال وأعظمها لحقته هاء المبالغة و‏{‏لا ريب فيه‏}‏ تبرئة هي وما بعدها بمثابة الابتداء تطلب الخبر، ومعناه‏:‏ لا ريب فيه في نفسه وحقيقة أمره، وإن ارتاب فيه الكفرة فغير ضائر، ‏{‏ومن أصدق من الله حديثاً‏}‏‏؟‏ ظاهره الاستفهام ومعناه تقرير الخبر، تقديره‏:‏ لا أحد أصدق من الله تعالى، لأن دخول الكذب في حديث البشر إنما علته الخوف والرجاء، تقديره‏:‏ السجية، وهذه منفية في حق الله تعالى وتقدست أسماؤه، والصدق في حقيقته أن يكون ما يجري على لسان المخبر موافقاً لما في قلبه، وللأمر المخبر عنه في وجوده، و‏{‏حديثاً‏}‏ نصب على التمييز‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فما لكم في المنافقين‏}‏ الآية‏.‏ الخطاب للمؤمنين، وهذا ظاهره استفهام، والمقصد منه التوبيخ، واختلف المتأولون فيمن المراد ب ‏{‏المنافقين‏}‏‏؟‏ فقال ابن عباس‏:‏ هم قوم كانوا بمكة فكتبوا إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أنهم قد آمنوا وتركوا الهجرة، وأقاموا بين أظهر الكفار ثم سافر قوم منهم إلى الشام فأعطتهم قريش بضاعات وقالوا لهم‏:‏ إنكم لا تخافون أصحاب محمد، لأنكم تخدعونهم بإظهار الإيمان لهم، فاتصل خبرهم بالمدينة، فاختلف المؤمنون فيهم، فقالت طائفة‏:‏ نخرج إلى أعداء الله المنافقين، وقالت طائفة‏:‏ بل هم مؤمنون لا سبيل لنا إليهم، فنزلت الآية، وقال مجاهد‏:‏ بل نزلت في قوم جاؤوا إلى المدينة من مكة، فأظهروا الإسلام، ثم قالوا‏:‏ لنا بضاعات بمكة فانصرفوا إليها وأبطنوا الكفر، فاختلف فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وهذان القولان يعضدهما ما في آخر الآية من قوله تعالى ‏{‏حتى يهاجروا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 89‏]‏، وقال زيد بن ثابت‏:‏ نزلت في المنافقين الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، عبد الله بن أبيّ وأصحابه، لأن أصحاب النبي عليه اسلام اختلفوا فيهم، وقال السدي‏:‏ بل نزلت في قوم منافقين كانوا بالمدينة فطلبوا الخروج عنه نفاقاً كفراً، وقالوا‏:‏ إنّا اجتويناها، وقال ابن زيد‏:‏ إنما نزلت في المنافقين الذين تكلموا في حديث الإفك، لأن الصحابة اختلفوا فيهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ الاختلاف في هذه النازلة كان بين أسيد بن حضير وسعد بن عبادة، حسبما وقع في البخاري، وكان لكل واحد أتباع من المؤمنين على قوله، وكل من قال في هذه الآية‏:‏ إنها فيمن كان بالمدينة يرد عليه قوله‏:‏

‏{‏حتى يهاجروا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 89‏]‏ لكنهم يخرجون المهاجرة إلى هجر ما نهى الله عنه، وترك الخلاف والنفاق، كما قال عليه السلام، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، و‏{‏فئتين‏}‏ معناه فرقتين، ونصبهما على الحال كما تقول‏:‏ ما لك قائماً، هذا مذهب البصريين، وقال الكوفيون‏:‏ نصبه بما يتضمنه ما لكم من الفعل، والتقدير ما لكم كنتم ‏{‏فئتين‏}‏ أو صرتم، وهذا الفعل المقدر ينصب عندهم النكرة والمعرفة، كما نقول ما لك الشاتم لزيد، وخطأ هذا القول الزجّاج، لأن المعرفة لا تكون حالاً، و‏{‏أركسهم‏}‏ معناه رجعهم في كفرهم وضلالهم، «والركس» الرجيع، ومنه حديث النبي عليه السلام في الاستنجاء، «فأخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال إنها ركس» ومنه قول أمية بن أبي الصلت‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

فَأَرْكسُوا في حَميمِ النَّّار إنَّهُم *** كانُوا عَصَاةً وقالوا الإفْكَ والزُّورَا

وحكى النضر بن شميل والكسائي، «ركس وأركس» بمعنى واحد، أي رجعهم، ومن قال من المتأولين‏:‏ أهلكهم أو أضلهم فإنما هي بالمعنى، لأن ذلك كله يتضمنه رجهم إلى الكفر، و‏{‏بما كسبوا‏}‏ معناه بما اجترحوا من الكفر والنفاق، أي إن كفرهم بخلق من الله واختراع وبتكسب منهم، وقوله‏:‏ ‏{‏أتريدون‏}‏ استفهام معناه الإبعاد واليأس مما أرادوه، والمعنى أتريدون أيها المؤمنون القائلون‏:‏ بأن أولئك المنافقين مؤمنون أن تسموا بالهدى من قد يسره الله للضلالة وحتمها عليه، ثم أخبر تعالى أنه من يضلل فلا سبيل إلى إصلاحه ولا إلى إرشاده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏89‏)‏‏}‏

الضمير في ‏{‏ودوا‏}‏ عائد على المنافقين، وهذا كشف من الله لخبث معتقدهم، وتحذير للمؤمنين منهم‏.‏ والمعنى تمنوا كفركم، وهي غاية المصائب بكم، وهذا الود منهم يحتمل أن يكون عن حسد منهم لهم على ما يرون للمؤمنين من ظهور في الدنيا، فتجري الآية مع ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم ويحتمل أمر المنافقين أن يكون أنهم رأوا المؤمنين على غير شيء فودوا رجوعهم إلى عبادة الأصنام، والأول أظهر، وقوله‏:‏ ‏{‏فلا تتخذوا‏}‏ الآية‏.‏ هذا نهي عن موالاتهم حتى يهاجروا، لأن الهجرة في سبيل الله تتضمن الإيمان، و‏{‏في سبيل الله‏}‏ معناه في طريق مرضاة الله، لأن سبل الله كثيرة، وهي طاعاته كلها، المعنى فإن أعرضوا عن الهجرة وتولوا عن الإيمان فخذوهم، وهذا أمر بالحمل عليهم ومجاهرتهم بالقتال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ‏(‏90‏)‏‏}‏

كان هذا الحكم في أول الإسلام قبل أن يستحكم أمر الطاعة من الناس، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هادن من العرب قبائل، كرهط هلال بن عويمر الأسلمي، وسرقة بن مالك بن جعشم، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف، فقضت هذه الآية بأنه من وصل من المشركين الذين لا عهد بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء أهل العهد فدخل في عدادهم وفعل من الموادعة فلا سبيل عليه، وقال عكرمة والسدي وابن زيد‏:‏ ثم لما تقوى الإسلام وكثر ناصروه نسخت هذه والتي بعدها بما في سورة براءة، وقال أبو عبيدة وغيره‏:‏ ‏{‏يصلون‏}‏ في هذا الموضع معناه، ينتسبون، ومنه قول الأعشى‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

إذَا اتَّصَلَتْ قَالَتْ‏:‏ أَبَكْر بْن وَائِلٍ *** وَبَكْرٌ سَبَتْهَا والأُنُوفُ رَوَاغِمُ

يريد إذا انتسبت‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وهذا غير صحيح، قال الطبري‏:‏ قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً وهم قرابة السابقين إلى الإسلام يقتضي بأن قرابة من له ميثاق أجدر بأن تقاتل، فإن قيل‏:‏ إن النبي عليه السلام لم يقاتل قريشاً إلا بعد نسخ هذه الآية، قيل‏:‏ التواريخ تقضي بخلاف ذلك، لأن الناسخ بهذه الآية هي سورة براءة، ونزلت بعد فتح مكة وإسلام جميع قريش، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو جاءوكم‏}‏ عطف على ‏{‏يصلون‏}‏، ويحتمل أن يكون على قوله‏:‏ ‏{‏بينكم وبينهم ميثاق‏}‏ والمعنى في العطفين مختلف وهذا أيضاً حكم كان قبل أن يستحكم أمر الإسلام، فكان المشرك إذا اعتزل القتال وجاء إلى دار الإسلام مسالماً كارهاً لقتال قومه، مع المسلمين ولقتال المسلمين مع قومه لا سبيل عليه، وهذه نسخت أيضاً بما في براءة‏.‏ و‏{‏حصرت‏}‏‏:‏ ضاقت وحرجت، ومنه الحصر في القول، وهو‏:‏ ضيق الكلام على المتكلم، وقرأ الحسن وقتادة «حصرة» كذا قال الطبري‏:‏ وحكى ذلك المهدوي عن عاصم من رواية حفص، وحكي عن الحسن أنه قرأ «حصرات» وفي مصحف أبيّ سقط ‏{‏أو جاءوكم‏}‏، و‏{‏حصرت‏}‏ عند جمهور النحويين في موضع نصب على الحال بتقدير قد حصرت‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا يصحب الفعل الماضي إذا كان في موضع الحال والداعي إليه أن يفرق بين تقدير الحال وبين خبر مستأنف، كقولك جاء زيد ركب الفرس، فإن أردت بقولك ركب الفرس خبراً آخر عن زيد، لم تحتج إلى تقدير قد، وإن أردت به الحال من زيد قدرته بقد، قال الزجاج‏:‏ ‏{‏حصرت‏}‏ خبر بعد خبر، وقال المبرد‏:‏ ‏{‏حصرت‏}‏ دعاء عليهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقال بعض المفسرين‏:‏ لا يصح هنا الدعاء، لأنه يقتضي الدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا قومهم، ذلك فاسد‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وقول المبرد يخرج على أن الدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا المسلمين تعجيز لهم، والدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا قومهم تحقير لهم، أي هم أقل وأحقر، ويستغنى عنهم، كما تقول إذا أردت هذا المعنى‏:‏ لا جعل الله فلاناً عليَّ ولا معي أيضاً، بمعنى استغنى عنه واستقل دونه، واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لسلطهم‏}‏ جواب ‏{‏لو‏}‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏فلقاتلوكم‏}‏ لام المحاذاة والازدواج، لأنها بمثابة الأولى، لو لم شاء الله لقواهم وجرأهم عليكم، فإذا قد أنعم الله عليكم بالهدنة فاقبلوها وأطيعوا فيها، وقرأت طائفة «فلقتلوكم» وقرأ الجحدري والحسن «فلقتّلوكم» بتشديد التاء، والمعنى فإن اعتزلوكم أي هادنوكم وتاركوكم في القتل، و‏{‏السلم‏}‏ هنا الصلح، قاله الربيع، ومنه قول الطرماح بن حكيم‏:‏

وذاك أن تميماً غادرت سلماً *** لللأسد كل حصان رعثة الكبد

وقال الربيع‏:‏ ‏{‏السلم‏}‏ هاهنا الصلح، وكذا قرأته عامة القراء، وقرأ الجحدري «السلّم» بسكون اللام، وقرأ الحسن «السّلِمْ» بكسر السين وسكون اللام، فمعنى جملة هذه الآية، خذوا المنافقين الكافرين واقتلوهم حيث وجدتموهم، إلا من دخل منهم في عداد من ‏{‏بينكم وبينه ميثاق‏}‏ والتزم مهادنتكم أو من جاءكم وقد كره قتالكم وقتال قومه، وهذا بفضل الله عليكم ودفاعه عنكم، لأنه لو شاء ‏{‏لسلط‏}‏ هؤلاء الذين هم بهذه الصفة من المتاركة عليكم ‏{‏فلقاتلوكم‏}‏، فإن اعتزلوكم أي إذا وقع هذا فلم يقاتلوكم، فلا سبيل لكم عليهم، وهذا والذي في سورة الممتحنة من قوله تعالى ‏{‏لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم إن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 8‏]‏ منسوخ بما في سورة براءة، قاله قتادة وابن زيد وغيرهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏91‏)‏‏}‏

لما وصف الله تعالى فيما تقدم صفة المحقين في المتاركة، المجدين في إلقاء السلم، نبه على طائفة مخادعة مبطلة مبطنة كانوا يريدون الإقامة في مواضعهم مع أهليهم، يقولون لهم‏:‏ نحن معكم وعلى دينكم، ويقولون أيضاً للمسلمين إذا وفدوا وأرسلوا‏:‏ نحن معكم وعلى دينكم خبثة منهم وخديعة، قيل‏:‏ كانت أسد وغطفان بهذه الصفة، وقيل‏:‏ نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي، كان ينقل بين النبي عليه االسلام والكفار الأخبار، وقيل‏:‏ نزلت في قوم يجيئون من مكة إلى النبي عليه السلام رياء يظهرون الإسلام ثم يرجعون إلى قريش فيكفرون، ففضح الله تعالى هؤلاء، وأعلم أنها على غير صفة من تقدم، وقوله‏:‏ ‏{‏إلى الفتنة‏}‏ معناه إلى الإختبار، حكي أنهم كانوا يرجعون إلى قومهم فيقال لأحدهم‏:‏ قل‏:‏ ربي الخنفساء، وربي العود، وربي العقرب، ونحوه، فيقولها، ومعنى ‏{‏أركسوا‏}‏ رجعوا رجع ضلالة أي أهلكوا في الاختيار بما واقعوه من الكفر، وقرأ عبد الله بن مسعود «رُكسوا» بضم الراء من غير ألف، وحكاه عنه أبو الفتح بشد الكاف على التضعيف، والخلاف في ‏{‏السلم‏}‏ حسبما تقدم، وهذه الآية حض على قتل هؤلاء المخادعين إذا لم يرجعوا عن حالهم إلى حال الآخرين المعتزلين الملقين للسلم‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله‏:‏ وتأمل فصاحة الكلام في أن سياقه في الصيغة المتقدمة قبل هذه سياق إيجاب الاعتزال‏.‏ وإيجاب إلقاء السلم، ونفي المقاتلة، إذ كانوا محقين في ذلك معتقدين له، وسياقه في هذه الصيغة المتأخرة سياق نفي الاعتزال، ونفي إلقاء السلم، إذ كانوا مبطلين فيه مخادعين، والحكم سواء على السياقين، لأن الذين لم يجعل الله عليهم سبيلاً لو لم يعتزلوا لكان حكمهم حكم هؤلاء الذين جعل عليهم «سلطان مبين»، وكذلك هؤلاء الذين عليهم السلطان، إذ لم يعتزلوا، لو اعتزلوا لكان حكمهم حكم الذين لا سبيل عليهم‏.‏ ولكنهم بهذه العبارة تحت القتل إن لم يعتزلوا، و‏{‏ثقفتموهم‏}‏ مأخوذ من الثقاف، أي ظفرتم بهم مغلوبين متمكناً منهم، والسلطان الحجة، قال عكرمة‏:‏ حيث ما وقع السلطان في كتاب الله تعالى فهو الحجة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏92‏)‏‏}‏

قال جمهور المفسرين‏:‏ معنى هذه الآية‏:‏ وما كان في إذن الله وفي أمره للمؤمن أن يقتل مؤمناً بوجه، ثم استثنى منقطعاً ليس من الأول، وهو الذي تكون فيه إلا بمعنى لكن، والتقدير لكن الخطأ قد يقع‏.‏

وهذا كقول الشاعر ‏[‏الهذلي‏]‏‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

أَمْسى سَقَامُ خَلاءً لاَ أَنيسَ بِهِ *** إلاّ السِّباعُ وإلاَّ الرّيحُ بِالغُرَفِ

قال القاضي أبو محمد‏:‏ سقام اسم واد، والغرف شجر يدبغ بلحائه، وكما قال جرير‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

مِنَ البِيضِ لَمْ تَطُغَنْ بَعيداً وَلَمْ تَطَأْ *** على الأرْضِ إلاّ ريطَ بُرْدٍ مُرَحَّلِ

وفي هذا الشاهد نظر، ويتجه في معنى الآية وجه آخر، وهو أن تقدر ‏{‏كان‏}‏ بمعنى استقر ووجد، كأنه قال، وما وجد ولا تقرر ولا ساغ ‏{‏لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً‏}‏، إذ هو مغلوب فيه أحياناً، فيجيء يا فلان أن تتكلم بهذا إلا ناسياً، إعظاماً العمد وبشاعة شأنه، كما تقول‏:‏ ما كان لك مقصوراً غير مهموز، وقرأ الحسن والأعمش مهموزاً ممدوداً، وقال مجاهد وعكرمة والسدي وغيرهم نزلت هذه الآية في عياش بن أبي ربيعة المخزومي حين قتل الحارث بن يزيد بن نبيشة، وذلك أنه كان يعذبه بمكة، ثم أسلم الحارث وجاء مهاجراً فلقيه عياش بالحرة، فظنه على كفره فقتله، ثم جاء فأخبر النبي عليه السلام فشق ذلك عليه ونزلت الآية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قم فحرر» وقال ابن زيد‏:‏ نزلت في رجل قتله أبو الدرداء كان يرعى غنماً وهو يتشهد فقتله وساق غنمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت الآية وقيل‏:‏ نزلت في أبي حذيفة اليمان حين قتل خطأ يوم أحد، وقيل غير هذا، والله أعلم وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قتل مؤمناً‏}‏ الآية، بيّن الله تعالى في هذه الآية حكم المؤمن إذا قتل المؤمن خطأ، وحقيقة الخطأ أن لا يقصده بالقتل، ووجوه الخطأ كثيرة لا تحصى، يربطها عدم القصد، قال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وغيرهم‏:‏ «الرقبة المؤمنة» هي الكبيرة التي قد صلت وعقلت الإيمان، ولا يجزئ في ذلك الصغير، وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ يجزئ الصغير المولود بين المسلمين، وقالت جماعة منهم مالك بن أنس‏:‏ يجزئ كل من يحكم له بحكم الإسلام في الصلاة عليه إن مات ودفنه، قال مالك‏:‏ ومن صلى وصام أحب إليّ، وأجمع أهل العلم على أن الناقص النقصان الكثير كقطع اليدين أو الرجلين أو الأعمى لا يجزئ فيما حفظت، فإن كان النقصان يسيراً تتفق له معه المعيشة والتحرف، كالعرج ونحوه ففيه قولان، و‏{‏مسلمة‏}‏ معناه مؤادة مدفوعة، وهي على العاقلة فيما جاز ثلث الدية، و‏{‏إلا أن يصدقوا‏}‏ يريد أولياء القتيل، وقرأ أبي بن كعب «يتصدقوا» وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن وعبد الوارث عن أبي عمرو «تصدقوا» بالتاء على المخاطبة للحاضر، وقرأ نبيح العتري «تصدقوا» بالتاء وتخفيف الصاد، و«الدية» مائة من الإبل على أهل الإبل عند قوم، وعند آخرين على الناس كلهم، إلا أن لا يجد الإبل أهل الذهب والفضة، فحينئذ ينتقلون إلى الذهب والفضة، يعطون منها قيمة الإبل في وقت النازلة بالغة ما بلغت، واختلف في المائة من الإبل، فقال علي بن أبي طالب‏:‏ هي مربعة، ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وقال عبد الله بن مسعود‏:‏ مخمسة، عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون ذكراً، ولبعض الفقهاء غير هذا الترتيب، وعمر بن الخطاب وغيره يرى الدية من البقر مائتي بقرة‏.‏

ومن الغنم ألفي شاة، ومن الحلل مائة حلة، وورد بذلك حديث عن النبي عليه السلام في مصنف أبي داود، والحلة ثوبان من نوع واحد في كلام العرب، وكانت في ذلك الزمن صفة تقاوم المائة من الإبل، فمضى القول على ذلك، وأما الذهب فهي ألف دينار، قررها عمر ومشى الناس عليها، وأما الفضة فقررها عمر اثني عشر ألفاً، وبه قال مالك، وجماعة تقول‏:‏ عشرة آلاف درهم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن كان من قوم عدو لكم‏}‏ الآية‏.‏ المعنى عند ابن عباس وقتادة والسدي وإبراهيم وعكرمة وغيرهم، فإن كان هذا المقتول خطأ رجلاً مؤمناً، قد آمن وبقي في قومه وهم كفرة عدو لكم، فلا دية فيه، وإنما كفارته تحرير الرقبة، والسبب عندهم في نزولها أن جيوش رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تمر بقبائل الكفار فربما قتل من قد آمن ولم يهادر، أو من قد هاجر ثم رجع إلى قومه، فيقتل في حملات الحرب على أنه من الكفار، فنزلت الآية، وتسقط الدية عند قائلي هذه المقالة لوجهين، أولهما أن أولياء القتيل كفار فلا يصح أن تدفع الدية إليهم يتقوون بها، والآخر أن حرمة هذا الذي آمن ولم يهاجر قليلة، فلا دية فيه، واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 72‏]‏ وقالت فرقة‏:‏ بل الوجه في سقوط الدية أن الأولياء كفار فقط، فسواء كان القتيل خطأ بين أظهر المسلمين أو بين قومه، لم يهاجر أو هاجر ثم رجع إلى قومه، كفارته التحرير ولا دية فيه، لأنه لا يصح دفعها إلى الكفار‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وقائل المقالة الأولى يقول‏:‏ إن قتل المؤمن في بلد المسلمين وقومه حرب ففيه الدية لبيت المال والكفارة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق‏}‏ المعنى عند الحسن وجابر بن زيد وإبراهيم وغيرهم وإن كان هذا المقتول خطأ مؤمناً من قوم معاهدين لكم، فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم، فكفارته التحرير وأداء الدية، وقرأ الحسن «وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن» وقال ابن عباس والشعبي وإبراهيم أيضاً‏.‏

المقتول من أهل العهد خطأ لا يبالي كان مؤمناً أو كافراً على عهد قومه فيه الدية كدية المسلم والتحرير، واختلف على هذا في دية المعاهد، فقال أبو حنيفة وغيره‏:‏ ديته كدية المسلم، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقال مالك وأصحابه‏:‏ دينه على نصف دية المسلم، وقال الشافعي وأبو ثور‏:‏ ديته على ثلث دية المسلم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن لم يجد‏}‏ الآية يريد عند الجمهور فمن لم يجد العتق ولا اتسع ماله له فيجزيه «صيام شهرين» متتابعين في الأيام لا يتخللها فطر، وقال مكي عن الشعبي‏:‏ «صيام الشهرين» يجزئ عن الدية والعتق لمن لم يجدها، وهذا القول وهم، لأن الدية إنما هي على العاقلة وليست على القاتل، والطبري حكى القول عن مسروق، و‏{‏توبة‏}‏ نصب على المصدر معناه رجوعاً بكم إلى التيسير والتسهيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ‏(‏93‏)‏‏}‏

«المتعمد» في لغة العرب القاصد إلى الشيء، واختلف العلماء في صفة المتعمد في القتل، فقال عطاء وإبراهيم النخعي وغيرهما‏:‏ هو من قتل بحديدة كالسيف أو الخنجر وسنان الرمح ونحو ذلك من المشحوذ المعد للقطع أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقيل الحجارة ونحوه، وقالت فرقة‏:‏ «المتعمد» كل من قتل بحديدة كان القتل أو بحجر أو بعصا أو بغير ذلك، وهذا قول الجمهور وهو الأصح، ورأى الشافعي وغيره أن القتل بغير الحديد المشحوذ هو شبه العمد، ورأوا فيه تغليظ الدية، ومالك رحمه الله لا يرى شبه العمد ولا يقول به في شيء، وإنما القتل عنده ما ذكره الله تعالى عمداً وخطأ لا غير، والقتل بالسم عنده عمد، وإن قال ما أردت إلا سكره، وقوله‏:‏ ‏{‏فجزاؤه جهنم‏}‏ تقديره عند أهل السنة، فجزاؤه أن جازاه بذلك أي هو أهل ذلك ومستحقه لعظم ذنبه، ونص على هذا أبو مجلز وأبو صالح وغيرهما وهذا مبني على القول بالمشيئة في جميع العصاة قاتل وغيره، وذهبت المعتزلة إلى عموم هذه الآية، وأنها مخصصة بعمومها لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ ‏[‏النساء 48-116‏]‏ وتوركوا في ذلك على ما روي عن زيد بن ثابت أنه قال‏:‏ نزلت الشديدة بعد الهينة، يرد نزلت ‏{‏ومن يقتل مؤمناً متعمداً‏}‏ بعد ‏{‏ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ ‏[‏النساء 48-116‏]‏ فهم يرون أن هذا الوعيد نافذ حتماً على كل قاتل يقتل مؤمناً، ويرونه عموماً ماضياً لوجهه، مخصصاً للعموم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48 و116‏]‏ كأنه قال‏:‏ إلا من قتل عمداً‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وأهل الحق يقولون لهم‏:‏ هذا العموم منكسر غير ماض لوجهه من جهتين، إحداهما ما أنتم معنا مجمعون عليه من الرجل الذي بشهد عليه أو يقرأ بالقتل عمداً ويأتي السلطان أو الأولياء فيقام عليه الحد ويقتل قوداً، فهذا غير متبع في الآخرة، والوعيد غير نافذ عليه إجماعاً متركباً‏.‏ على الحديث الصحيح من طريق عبادة بن الصامت، أنه من عوقب في الدنيا فهو كفارة له، وهذا نقض للعموم، والجهة الأخرى أن لفظ هذه الآية ليس بلفظ عموم، بل لفظ مشترك يقع كثيراً للخصوص، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏ وليس حكام المؤمنين إذا حكموا بغير الحق في أمر بكفرة بوجه، وكقول الشاعر ‏[‏زهير بن أبي سلمى‏]‏‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وَمَنْ لا يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاَحِهِ *** يُهَدَّمْ وَمَنْ لا يَظْلِمِ النَّاسَ يُظْلَمِ

وهذا إنما معناه الخصوص، لأنه ليس كل من لا يظلم يظلم، فهذه جهة أخرى تدل على أن العموم غير مترتب، وما احتجوا به من قول زيد بن ثابت فليس كما ذكروه، وإنما أراد زيد أن هذه الآية نزلت بعد سورة الفرقان، ومراده باللينة قوله تعالى‏:‏

‏{‏ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏، وإن كان المهدوي قد حكى عنه أنه قال‏:‏ أنزلت الآية ‏{‏ومن يقتل مؤمناً متعمداً‏}‏ بعد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48-116‏]‏ بأربعة أشهر فإذا دخله التخصيص، فالوجه أن هذه الآية مخصوصة في الكافر يقتل المؤمن، أما على ما روي أنها نزلت في شأن مقيس بن حبابة، حين قتل أخاه هشام بن حبابة رجل من الأنصار، فأخذ له رسول الله صلى الله عليه وسلم الدية، ثم بعثه مع رجل من فهر بعد ذلك في أمر ما، فعدا عليه مقيس فقتله ورجع إلى مكة مرتداً، وجعل ينشد‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

قَتَلْتُ بِهِ فِهْراً وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ *** سراةَ بني النَّجَّارِ أربابَ فَارِعِ

حَللْتُ بِهِ وِتْرِي وأدْرَكْتُ ثورتي *** وكنتُ إلى الأوثانِ أَوَّلَ راجِعِ

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا أؤمنه في حل ولا في حرم» وأمر بقتله يوم فتح مكة، وهو متعلق بالكعبة، وأما أن يكون على ما حكي عن ابن عباس أنه قال ‏{‏متعمداً‏}‏ معناه مستحلاً لقتله‏.‏ فهذا يؤول أيضاً إلى الكفر، وفي المؤمن الذي قد سبق في علم الله أنه يعذبه بمعصيته على ما قدمنا من تأويل، فجزاؤه أ، جازاه، ويكون قوله ‏{‏خالداً‏}‏ إذا كانت في المؤمن بمعنى باق مدة طويلة على نحو دعائهم للملوك بالتخليد ونحو ذلك، ويدل على هذا سقوط قوله «أبداً» فإن التأبيد لا يقترن بالخلود إلا في ذكر الكفار‏.‏

واختلف العلماء في قبول توبة القاتل، فجماعة على أن لا تقبل توبته، وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر، وكان ابن عباس يقول‏:‏ الشرك والقتل مبهمان، من مات عليهما خلد، وكان يقول‏:‏ هذه الآية مدنية نسخت الآية التي في الفرقان، إذ الفرقان مكية والجمهور على قبول توبته، وروي عن بعض العلماء أنهم كانوا يقصدون الإغلاظ والتخويف أحياناً، فيطلقون‏:‏ لا تقبل توبة القاتل، منهم ابن شهاب كان إذا سأله من يفهم منه أنه قد قتل قال له‏:‏ توبتك مقبولة، وإذا سأله من لم يفعل، قال له‏:‏ لا توبة للقاتل، ومنهم ابن عباس وقع عنه في تفسير عبد بن حميد أن رجلاً سأله أللقاتل توبة‏؟‏ فقال له‏:‏ لا توبة للقاتل وجزاؤه جهنم، فلما مضى السائل قال له أصحابه‏:‏ ما هكذا كنا نعرفك تقول إلا أن للقاتل التوبة، فقال لهم‏:‏ إني رأيته مغضباً وأظنه يريد أن يقتل، فقاموا فطلبوه وسألوا عنه، فإذا هو كذلك‏.‏ وذكر هبة الله في كتاب الناسخ والمنسوخ له‏:‏ أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48- 116‏]‏ وقال‏:‏ هذا إجماع الناس إلا ابن عباس وابن عمر، فإنهما قالا‏:‏ هي محكمة‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وفيما قاله هبة الله نظر، لأنه موضع عموم وتخصيص، لا موضع نسخ، وإنما ركب كلامه على اختلاف الناس في قبول توبة القاتل، والله أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏94‏)‏‏}‏

تقول العرب‏:‏ ضربت في الأرض إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيره مقترنة ب «في»، وتقول‏:‏ ضربت الأرض دون «ففي» إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان، ومنه قول- النبي عليه السلام‏:‏ «لا يخرج الرجلان يضربان الغائط يتحدثان كاشفين عن فرجيهما فإن الله يمقت على ذلك» وسبب هذه الآية‏:‏ أن سرية من سرايا رسول الله لقيت رجلاً له جمل ومتيع، وقيل غنيمة، فسلم على القوم، وقال‏:‏ لا إله إلا الله محمد رسول الله، فحمل عليه أحدهم فقتله، فشق ذلك على رسول الله ونزلت الآية فيه، واختلف المفسرون في تعيين القاتل والمقتول في هذه النازلة، فالذي عليه الأكثر- وهو في سيرة ابن إسحاق وفي مصنف أبي داود وغيرهما‏:‏ أن القاتل محلم بن جثامة والمقتول عامر بن الأضبط، والحديث بكماله في المصنف لأبي دواد، وفي السير وفي الاستيعاب، وقالت فرقة‏:‏ القاتل أسامة بن زيد، والمقتول مرداس بن نهيك الغطفاني، وقالت فرقة‏:‏ القاتل أبو قتادة، وقالت فرقة‏:‏ القاتل غالب الليثي، والمقتول مرداس، وقالت فرقة‏:‏ القاتل هو أبو الدرداء، ولا خلاف أن الذي لفظته الأرض حين مات هو محلم بن جثامة‏.‏

وقرأ جمهور السبعة ‏{‏فتبينوا‏}‏ وقرأ حمزة والكسائي «فتثتوا» بالثاء مثلثة في الموضعين وفي الحجرات، وقال قوم‏:‏ «تبينوا» أبلغ وأشد من «تثبتوا»، لأن المتثبت قد لا يتبين، وقال أبو عبيد‏:‏ هما متقاربان‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والصحيح ما قال أبو عبيد، لأن تبين الرجل لا يقتضي أن الشيء بان له، بل يقتضي محاولة اليقين، كما أن ثبت تقتضي محاولة اليقين، فهما سواء، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة وابن كثير في بعض طرقه، «السَّلَم» بتشديد السين وفتحه وفتح اللام، ومعناه‏:‏ الاستسلام أي ألقى بيده واستسلم لكم وأظهر دعوتكم، وقرأ بقية السبعة «السلام» يريد سلم ذلك المقتول على السرية، لأن سلامه بتحية الإسلام مؤذن بطاعته وانقياده، ويحتمل أن يراد به الانحياز والترك، قال الأخفش‏:‏ يقال‏:‏ فلان سلام إذا كان لا يخالط أحداً، وروي في بعض طرق عاصم «السِّلْم» بكسر السين وسكون اللام وهو الصحيح، والمعنى المراد بهذه الثلاثة يتقارب، وقرأ الجحدري «السَّلْم» بفتح السين وسكون اللام، والعرض‏:‏ هو المتيع والجمل، أو الغنيمة التي كانت للرجل المقتول، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وأبو حمزة واليماني «لست مؤمَناً» بفتح الميم، أي لسنا نؤمنك في نفسك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فعند الله مغانم كثيرة‏}‏ عدة بما يأتي به الله على وجهه ومن حله دون ارتكاب محظور أي فلا تتهافتوا‏.‏

واختلف المتأولون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك كنتم من قبل‏}‏ فقال سعيد بن جبير‏:‏ معناه كنتم مستخفين من قومكم بإسلامكم، خائفين منهم على أنفسكم، فمنّ الله عليكم بإعزاز دينكم، وإظهار شريعتكم، فهم الآن كذلك، كل واحد منهم خائف من قومه، متربص أن يصل إليكم فلم يصلح إذا وصل أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره، وقال ابن زيد‏:‏ كذلك كنتم كفرة فمنّ الله عليكم بأن أسلمتم، فلا تنكروا أن يكون هو كافراً ثم يسلم لحينه حين لقيكم، فيجب أن يتثبت في أمره، ويحتمل أن يكون المعنى إشارة بذلك إلى القتل قبل التثبت، أي على هذه الحال كنتم في جاهليتكم لا تتثبتون، حتى جاء الله بالإسلام ومنّ عليكم، ثم أكد تبارك وتعالى الوصية بالتبين، وأعلم أنه خبير بما يعمله العباد، وذلك منه خبر يتضمن تحذيراً منه تعالى، لأن المعنى ‏{‏إن الله بما تعملون خبيراً‏}‏، فاحفظوا نفوسكم، وجنبوا الزلل الموبق بكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏95- 96‏]‏

‏{‏لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏95‏)‏ دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏96‏)‏‏}‏

في قوله‏:‏ ‏{‏لا يستوي‏}‏ إبهام على السامع هو أبلغ من تحديد المنزلة التي بين المجاهد والقاعد، فالمتأمل يمشي مع فكرته ولا يزال يتخيل الدرجات بينهما، و‏{‏القاعدون‏}‏ عبارة عن المتخلفين، إذ القعود هيئة من لا يتحرك إلى الأمر المقعود عنه في الإلب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة، «غيرُ أولي الضرر» برفع الراء من غير، وقرأ الأعمش وأبو حيوة «غيرِ» بكسر الراء فمن رفع جعل غير صفة للقاعدين عند سيبويه، كما هي عنده صفة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏غير المغضوب‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 7‏]‏ بجر غير صفة، ومثله قول لبيد‏:‏ ‏[‏الرمل‏]‏

وَإذَا جُوزِيتَ قِرْضاً فاجْزِهِ *** إنَّما يُجْزَى الْفَتى غَيْرَ الْجَمَلْ

قال المؤلف‏:‏ كذا ذكره أبو علي، ويروى ليس الجمل، ومن قرأ بنصب الراء جعله استثناء من القاعدين، قال أبو الحسن‏:‏ ويقوي ذلك أنها نزلت بعدها على طريق الاستثناء والاستدراك‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وقد يتحصل الاستدراك بتخصيص القاعدين بالصفة، قال الزجّاج‏:‏ يجوز أيضاً في قراءة الرفع أن يكون على جهة الاستثناء، كأنه قال‏:‏ «لا يستوي القاعدون والمجاهدون إلا أولو الضرر» فإنهم يساوون المجاهدين‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وهذا مردود، لأن ‏{‏أولي الضرر‏}‏ لا يساوون المجاهدين، وغايتهم أن خرجوا من التوبيخ والمذمة التي لزمت القاعدين من غير عذر، قال‏:‏ ويجوز في قراءة نصب الراء أن يكون على الحال، وأما كسر الراء فعلى الصفة للمؤمنين، وروي من غير طريق أن الآية نزلت ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون‏}‏ فجاء ابن أم مكتوم حين سمعها، فقال‏:‏ يا رسول الله هل من رخصة‏؟‏ فإني ضرير البصر فنزلت عند ذلك ‏{‏غير أولي الضرر‏}‏ قال الفلتان بن عاصم كنا قعوداً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه، وكان إذا أوحي إليه دام بصره مفتوحة عيناه وفرغ سمعه وبصره لما يأتيه من الله، وكنا نعرف ذلك في وجهه، فلما فرغ قال للكاتب‏:‏ اكتب ‏{‏لا يستوي القاعدونَ من المؤمنين والمجاهدون‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏ قال‏:‏ فقام الأعمى، فقال‏:‏ يا رسول الله ما ذنبنا‏؟‏ قال‏:‏ فأنزل الله على رسوله، فقلنا للأعمى‏:‏ إنه ينزل عليه، قال‏:‏ فخاف أن ينزل فيه شيء فبقي قائماً مكانه يقول‏:‏ أتوب على رسول الله حتى فرغ رسول الله، فقال الكاتب‏:‏ اكتب ‏{‏غير أولي الضرر‏}‏ وأولو الضرر هم أهل الأعذار إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد‏.‏ قاله ابن عباس وغيره‏.‏ وقوله تعالى ‏{‏بأموالهم وأنفسهم‏}‏ هي الغاية في كمال الجهاد‏.‏ ولما كان أهل الديوان متملكين بذلك العطاء يصرفون في الشدائد وتروعهم البعوث والأوامر‏.‏ قال بعض العلماء‏:‏ هم أعظم أجراً من المتطوع لسكون جأشه ونعمة باله في الصوائف الكبار وفسر الناس الآية على أن تكملة التفضيل فهيا ب «الدرجة» ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وتأكيد وبيان، وقال ابن جريج الفضل بدرجة هو على القاعدين من أهل العذر‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ لأنهم مع المؤمنين بنياتهم كما قال النبي عليه السلام في غزوة تبوك «إن بالمدينة رجالاً ما قطعنا وادياً ولا سلكنا جبلاً ولا طريقاً إلا وهم معنا حبسهم العذر» قال ابن جريج‏.‏ والتفضيل «بالأجر العظيم والدرجات» هو على القاعدين من غير أهل العذر، و‏{‏الحسنى‏}‏ الجنة، وهي التي وُعدها المؤمنون، وكذلك قال السدي وغيره‏.‏

وقال ابن محيريز‏:‏ «الدرجات» هي درجات في الجنة، سبعون، ما بين الدرجتين حضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة، وقال بهذا القول الطبري ورجحه، وقال ابن زيد‏:‏ «الدرجات» في الآية هي السبع المذكورات في سورة براءة، فهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 120‏]‏ الآيات فذكر فيها الموطئ الغائظ للكفار، والنيل من العدو، والنفقة الصغيرة والكبيرة، وقطع الأودية والمسافات‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ ودرجات الجهاد لو حصرت أكثر من هذه، لكن يجمعها بذل النفس والاعتمال بالبدن والمال في أن تكون كلمة الله هي العليا، ولا شك أن بحسب مراتب الأعمال ودرجاتها تكون مراتب الجنة ودرجاتها، فالأقوال كلها متقاربة، وباقي الآية وعد كريم وتأنيس‏.‏ ونصب ‏{‏درجات‏}‏ إما على البدل من الأجر، وإما على إضمار فعل على أن تكون تأكيداً للأجر، كما تقول‏:‏ لك عليَّ ألف درهم عرفاً، كأنك قلت أعرفها عرفاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 100‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏97‏)‏ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ‏(‏98‏)‏ فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ‏(‏99‏)‏ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏100‏)‏‏}‏

المراد بهذه الآية إلى قوله ‏{‏مصيراً‏}‏ جماعة من أهل مكة كانوا قد أسلموا وأظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم الإيمان به، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا مع قومهم، وفتن منهم جماعة فافتتنوا، فما كان أمر بدر خرج منهم قوم مع الكفار فقتلوا ببدر، فنزلت الآية فيهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما، كان قوم ن أهل مكة قد أسلموا وكانوا يستخفون بإسلامهم، فأخرجهم المشركون يوم بدر فأصيب بعضهم، فقال المسلمون كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت ‏{‏إن الذين توفاهم الملائكة‏}‏ الآية‏.‏ قال‏:‏ فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية، أن لا عذر لهم، فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم هذه الآية الأخرى، ‏{‏ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 10‏]‏ الآية فكتب إليهم المسلمون بذلك فخرجوا ويئسوا من كل خير‏.‏ ثم نزلت فيهم ‏{‏ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 110‏]‏ فكتبوا إليهم بذلك، أن الله قد جعل لكم مخرجاً فخرجوا فلحقهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل، وقال عكرمة‏:‏ نزلت هذه الآية في خمسة قتلوا ببدر، وهم قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود بن أسد، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو العاصي بن منبه بن الحجاج، وعلي بن أمية بن خلف، قال النقاش‏:‏ في أناس سواهم أسلموا ثم خرجوا إلى بدر، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا‏:‏ غر هؤلاء دينهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-‏:‏ وكان العباس ممن خرج مع الكفار لكنه نجا وأسر، وكان من المطعمين في نفير بدر، قال السدي‏:‏ لما أسر العباس وعقيل ونوفل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس‏:‏ «افد نفسك وابن أخيك، فقال له العباس‏:‏ يا رسول الله، ألم نصل قبلتك ونشهد شهادتك‏؟‏ قال يا عباس‏:‏ إنكم خاصمتم فخصمتم» ثم تلا عليه هذه الآية ‏{‏ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها‏}‏ قال السدي‏:‏ فيوم نزلت هذه الآية كان من أسلم ولم يهاجر فهو كافر حتى يهاجر، إلا من لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً‏.‏

قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-‏:‏ وفي هذا الذي قاله السدي نظر، والذي يجري مع الأصول أن من مات من أولئك بعد أن قبل الفتنة وارتد فهو كافر ومأواه جهنم على جهة الخلود، وهذا هو ظاهر أمر تلك الجماعة وإن فرضنا فيهم من مات مؤمناً وأكره على الخروج، أو مات بمكة فإنما هو عاص في ترك الهجرة، مأواه جهنم على جهة العصيان دون خلود، لكن لما لم يتعين أحد أنه مات على الإيمان لم يسغ ذكرهم في الصحابة، ولم يعتد بما كان عرف منهم قبل، ولا حجة للمعتزلة في شيء من أمر هؤلاء على تكفيرهم بالمعاصي، وأما العباس فقد ذكر ابن عبد البر رحمه الله أنه أسلم قبل بدر، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم بدر من لقي العباس فلا يقتله، فإنما أخرج كرهاً‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق- رحمه الله- وذكر أنه إنما أسلم مأسوراً حين ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم أمر المال الذي ترك عند أم الفضل، وذكر أنه أسلم في عام خيبر، وكان يكتب إلى رسول الله بأخبار المشركين، وكان يحب أن يهاجر، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث بمكة فمقامك بها أنفع لنا‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ لكن عامله رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسر على ظاهر أمره‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏توفاهم‏}‏ يحتمل أن يكون فعلاً ماضياً لم يستند بعلامة تأنيث، إذ تأنيث لفظ ‏{‏الملائكة‏}‏ غير حقيقي، ويحتمل أن يكون فعلاً مستقبلاً على معنى تتوفاهم، فحذفت إحدى التاءين ويكون في العبارة إشارة إلى ما يأتي من هذا المعنى في المستقبل بعد نزول الآية‏.‏ وقرأ إبراهيم «تُوفاهم» بضم التاء، قال أبو الفتح‏:‏ كأنه يدفعون إلى الملائكة ويحتسبون عليهم‏.‏ و«تَوفاهم» بفتح التاء معناه‏:‏ تقبض أرواحهم، وحكى ابن فورك عن الحسن أن المعنى‏:‏ تحشرهم إلى النار و‏{‏ظالمي أنفسهم‏}‏ نصب على الحال أي ظالميها بترك الهجرة، قال الزجّاج‏:‏ حذفت النون من «ظالمين» تخفيفاً، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بالغ الكعبة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏، وقول الملائكة ‏{‏فيم كنتم‏}‏‏؟‏ تقرير وتوبيخ، وقول هؤلاء ‏{‏كنا مستضعفين في الأرض‏}‏ اعتذار غير صحيح، إذ كانوا يستطيعون الحيل ويهتدون السبيل ثم وقفتهم الملائكة على ذنبهم بقولهم ‏{‏ألم تكن أرض الله واسعة‏}‏ والأرض في قول هؤلاء هي أرض مكة خاصة، و‏{‏ارض الله‏}‏ هي الأرض بالإطلاق، والمراد فتهاجروا فيها إلى موضع الأمن، وهذه المقالة إنما هي بعد توفي الملائكة لأرواح هؤلاء‏.‏ وهي دالة على أنهم ماتوا مسلمين، وإلا فلو ماتوا كافرين لم يقل لهم شيء من هذا، وإنما أضرب على ذكرهم في الصحابة لشدة ما واقعوه، ولعدم تعين أحد منهم بالإيمان، ولاحتمال ردته، وتوعدهم الله تعالى بأن ‏{‏مأواهم جهنم‏}‏‏.‏

ثم استثنى منهم من كان استضعافه على حقيقة من زمنة الرجال وضعفة النساء والولدان، كعياش بن أبي ربيعة والوليد بن هشام وغيرهما، قال ابن عباس‏:‏ كنت أنا وأمي من المستضعفين، هي من النساء وأنا من الولدان، والحيلة‏:‏ لفظ عام لأسباب أنواع التخلص، و«السبيل»‏:‏ سبيل المدينة فيما ذكر مجاهد والسدي وغيرهما والصواب أنه عام في جميع السبل‏.‏

ثم رجّى الله تعالى هؤلاء بالعفو عنهم، و‏{‏عسى‏}‏ من الله واجبة‏.‏ أما أنها دالة على ثقل الأمر المعفو عنه، قال الحسن‏:‏ ‏{‏عسى‏}‏ من الله واجبة، قال غيره‏:‏ هي بمنزلة الوعد، إذ ليس يخبر ب ‏{‏عسى‏}‏ عن شك ولا توقع، وهذا يرجع إلى الوجوب، قال آخرون‏:‏ هي على معتقد البشر، أي ظنكم بمن هذه حالة تَرجِّي عفو الله عنه‏.‏

والمراغم‏:‏ المتحول والمذهب، كذا قال ابن عباس والضحاك والربيع وغيرهم، ومنه قول النابغة الجعدي‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

كَطود يلاذ بأَرْكَانِهِ *** عَزِيزٌ المراغِمِ وَالْمَذْهَبِ

وقول الآخر‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

إلى بَلِدٍ غَيْرِ داني الْمَحَلّ *** بَعِيدِ المرَاغمِ والْمُضْطَرَبْ

وقال مجاهد‏:‏ «المراغم» المتزحزح عما يكره، وقال ابن زيد‏:‏ «المراغم» المهاجر، وقال السدي‏:‏ «المراغم» المبتغى للمعيشة‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق‏:‏ وهذا كله تفسير بالمعنى، فأما الخاص باللفظة، فإن «المراغم» موضع المراغمة، وهو أن يرغم كل واحد من المتنازعين أنف صاحبه بأن يغلبه على مراده، فكفار قريش أرغموا أنوف المحبوسين بمكة، فلو هاجر منهم مهاجر في أرض الله لأرغم أنوف قريش بحصوله في منعة منهم، فتلك المنعة هي موضع المراغمة‏.‏ وكذلك الطود الذي ذكر النابغة، من صع فيه أمام طالب له وتوقل فقد أرغم أنف ذلك الطالب‏.‏ وقرأ نبيح والجراح والحسن بن عمران «مَرْغماً» بفتح الميم وسكون الراء دون ألف‏.‏ قال أبو الفتح‏:‏ هذا إنما هو على حذف الزوائد من راغم، والجماعة على «مراغم»، وقال ابن عباس والربيع والضحاك وغيرهم‏:‏ ‏{‏السعة‏}‏ هنا هي السعة في الرزق، وقال قتادة‏:‏ المعنى سعة من الضلالة إلى الهدى ومن العيلة إلى الغنى، وقال مالك‏:‏ السعة سعة البلاد‏.‏

قال القاضي رحمه الله‏:‏ والمشبه لفصاحة العرب أن يريد سعة الأرض وكثرة المعاقل، وبذلك تكون «السعة» في الرزق واتساع الصدر لهمومه وفكره وغير ذلك من وجوه الفرح، ونحو هذا المعنى قول الشاعر ‏[‏حطان بن المعلّى‏]‏‏.‏

لَكَانَ لي مَضْطَرَبٌ وَاسِعٌ *** في الأَرْضِ ذَاتِ الطُّولِ والْعَرْضِ

ومنه قول الآخر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

وَكُنْتُ إذَا خَليلٌ رامَ قَطْعي *** وَجَدْتُ وَرَاي مُنْفَسَحاً عَرِيضاً

وهذا المعنى ظاهر من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تكن أرض الله واسعة‏}‏ وقال مالك بن أنس رضي الله عنه‏:‏ الآية تعطي أن كل مسلم ينبغي أن يخرج من البلاد التي تغير فيها السنن ويعمل فيها بغير الحق، وقوله تعالى ‏{‏ومن يخرج من بيته‏}‏ الآية‏:‏ حكم باق في الجهاد والمشي إلى الصلاة والحج ونحوه، أما أنه لا يقال‏:‏ إن بنفس خروجه ونيته حصل في مرتبة الذي قضى ذلك الفرض أو العبادة في الجملة، ولكن يقال‏:‏ وقع له بذلك أجر عظيم، وروي‏:‏ أن هذه الآية نزلت بسبب رجل من كنانة، وقيل‏:‏ من خزاعة من بني ليث، وقيل‏:‏ من جندع، لما سمع قول الله عز وجل ‏{‏الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً‏}‏ قال‏:‏ إني لذو مال وعبيد- وكان مريضاً- فقال‏:‏ أخرجوني إلى المدينة، فأخرج في سرير فأدركه الموت بالتنعيم، فنزلت الآية بسببه، واختلف في اسمه، فحكى الطبري عن ابن جبير‏:‏ أنه ضمرة بن العيص، أو العيص بن ضمرة بن زنباع، وحكي عن السدي‏:‏ أنه ضمرة بن جندب، وحكي عن عكرمة‏:‏ أنه جندب بن ضمرة الجندعي، وحكي عن ابن جبير أيضاً‏:‏ أنه ضمرة بن بغيض الذي من بني ليث، وحكى أبو عمر بن عبد البر‏:‏ أنه ضمرة بن العيص، وحكى المهدوي‏:‏ أنه ضمرة بن نعيم، وقيل‏:‏ ضمرة بن خزاعة، وقرأت الجماعة «ثم يدركْه الموت» بالجزم عطفاً على ‏{‏يخرج‏}‏ وقرأ طلحة بن سليمان وإبراهيم النخعي فيما ذكر أبو عمرو «ثم يدركُه» برفع الكاف- قال أبو الفتح‏:‏ هذا رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي‏:‏ ثم هو يدركه الموت فعطف الجملة من المبتدأ والخبر على الفعل المجزوم بفاعله، فهما إذن جملة، فكأنه عطف جملة على جملة، وعلى هذا حمل يونس بن جبيب قول الأعشى‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

إنْ تَرْكَبُوا فَرُكُوبُ الْخَيْلِ عَادَتُنا *** أو تَنْزِلُونَ فإنّا مَعْشَرٌ نُزُلُ

المراد وأنتم تنزلون وعليه قول الآخر ‏[‏رويشد بن كثير الطائي‏]‏‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

إنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأْتيني بِقيتُكُمْ *** فَمَا عَلَيّ بِذَنْبٍ عِنْدكُمْ فَوتُ

المعنى‏:‏ ثم أنتم تأتيني‏.‏ وهذا أوجه من أن يحمله على قول الآخر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

ألم يأتيكَ وألأنباءُ تنمى *** وقرأ الحسن بن أبي الحسن وقتادة ونبيح والجراح «ثم يدركَه» بنصب الكاف وذلك على إضمار «أن» كقول الأعشى‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

لَنَا هضبةٌ لاَ يَنْزِلُ الذُّلُّ وَسْطَها *** وَيَأْوِي إلْيها الْمُسْتَجيرُ فَيُعْصَمَا

أراد‏:‏ فأن يعصم- قال أبو الفتح‏:‏ وهذا ليس بالسهل وإنما بابه اشعر لا القرآن، وأنشد ابن زيد‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

سَأَتْرُكُ مَنْزِلي لِبَني تَمِيمٍ *** وأَلحقُ بالحِجَازِ فأَسْترِيحا

والآية أقوى من هذا لتقدم الشرط قبل المعطوف‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومن هذه الآية رأى بعض العلماء أن من مات من المسلمين وقد خرج غازياً فله سهمه من الغنيمة، قاسوا ذلك على «الأجر»، وقد تقدم معنى الهجرة فيما سلف ووقع عبارة عن الثبوت وقوة اللزوم وكذلك هي- وجب- لأن الوقوع والوجوب نزول في الأجرام بقوة‏.‏ فشبه لازم المعاني بذلك وباقي الأية بيّن‏.‏